في الـ30 من يونيو الماضي، بثت الجماعة الإسلامية، الفرع المحلي لجماعة الإخوان في لبنان أنشودة حماسية بعنوان «إخوان القسام» عبر منصاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وجاءت تلك الأنشودة ضمن عمليات الحشد الدعائي الذي تسعى الجماعة لتوظيفه لصالحها في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية الحالية في قطاع غزة التي انخرطت فيها الجماعة وذراعها العسكرية قوات الفجر إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية.
ولم تكن أنشودة «إخوان القسام» سوى واحدة من الرسائل الإعلامية ذات المغزى السياسي التي أرادت الجماعة إرسالها، في الوقت الراهن، والتي تعكس رؤية قيادتها الحالية وعلى رأسها الأمين العام محمد طقوش للجماعة من الناحية التنظيمية وأيضاً من ناحية دائرة العمل والنشاط بامتداداتها التي تتخطى البعد المحلي إلى بعد إقليمي أوسع.
«نحنا اللي جاهدنا المحتل وذلينا جيشه من سنين من صيدا التحرير نطل ونخلط أوراق موازين، نحن لما القدس تنادي نتسابق على الشهادة قوات الفجر بأجناده بايعنا البنا وياسين.. نحن إخوان القسام الجماعة الإسلامية»
— مقطع من أنشودة «إخوان القسام» الجماعة الإسلامية اللبنانية
فمنذ الـ7 من أكتوبر 2023، برزت الجماعة الإسلامية اللبنانية على ساحة الأحداث بعد الإعلان عن عودة قوات الفجر الإسلامية، الجناح المسلح للحركة، للعمل من جديد ومشاركتها في إسناد فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة انطلاقاً من جبهة الجنوب اللبناني جنباً إلى جنب مع حزب الله صاحب الدور الأكبر والمسيطر فعلياً على هذه الجبهة.
ورغم محدودية مشاركتها العسكرية مقارنة بالدور الذي يلعبه الحزب، فإن عودة الجماعة الإسلامية وجناحها المسلح للعمل من جديد تكشف التغيرات الحاصلة في بنية الجماعة التنظيمية واستراتيجيتها العملياتية فضلاً عن التغير التكتيكي في تحالفاتها وعودتها للتنسيق مع حزب الله بعد سنوات الخلاف بين الجانبين بسبب الموقف من الثورة السورية.
تاريخياً، تأسست الجماعة الإسلامية، عام 1964، من رحم جماعة عباد الرحمن الخيرية الدعوية، وركزت في بدايتها على العمل الدعوي وبناء مؤسساتها التنظيمية، وما لبثت أن دخلت إلى المعترك السياسي في أوائل السبعينيات، ولاحقاً، تشكل جناحها المسلح باسم تنظيم المجاهدون، وهو الاسم الذي سيتغير في ما بعد.
على أن الجماعة، في تلك المرحلة، لم تكن كياناً قاصراً على اللبنانيين إذ انضم لها عديد من الفلسطينيين وشغلوا مناصب قيادية فيها، ومن بينهم علي بركة رئيس دائرة العلاقات الوطنية لحركة حماس حالياً وعضو المكتب السياسي للجماعة الإسلامية سابقاً، وبالطبع سيكون لتلك العلاقات والقرب من الحركة الفلسطينية دور في التأثير على ديناميات الجماعة الداخلية والتنافس القيادي داخلها لاحقاً.
ولا يعد انضمام الفلسطينيين في تلك المرحلة إلى التنظيمات القُطرية التابعة لجماعة الإخوان خارج فلسطين أمراً مستغرباً ففي تلك الفترة لم يكن لجماعة الإخوان في فلسطين فرع رسمي وإنما توزع منتسبوها بين أكثر من تنظيم إلى أن تشكل تنظيم الإخوان في بلاد الشام الذي تأسس عام 1978 وجمع إخوان الأردن وفلسطين في كيان واحد، وتلاه إنشاء جهاز فلسطين ثم حركة المقاومة الإسلامية حماس، عامي 1986، و1987 على الترتيب، وبذلك صارت الحركة الكيان الرسمي الذي يضم إخوان فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن ثم جاء فك الارتباط بينها وبين التنظيم الأردني في عام 2008، الذي دعمه مكتب الإرشاد العالمي، الهيئة التنفيذية للتنظيم العالمي/ الدولي للإخوان.
ولعل ظروف نشأة الجماعة الإسلامية، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وتأثرها بأيديولوجيا ومنهج جماعة الإخوان أسهم في بقائها جماعة نخبوية إلى حد ما لأنها ركزت على ممارسة عملية الدعوة والاستقطاب في صفوف المسلمين السنة المتدينين في بلد يعج بالطوائف والانقسامات، ومع ذلك بقيت الجماعة، في خطابها الرسمي، تُعرف نفسها بأنها مجموعة لبنانية وتحث على توحيد المجتمع اللبناني على أسس غير طائفية أي إنها ظلت معنية بالبعد المحلي، ولذا أسهمت بفاعلية في العمل الخيري والدعوي والتربوي في مناطق انتشارها.
وفي سياق متصل، شاركت الجماعة الإسلامية في التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان، عام 1982، وبرز جناحها المسلح في هذه الفترة باسم قوات الفجر الإسلامية وعملت، حينها، مع مجموعات المقاومة الشيعية التي سينبثق منها، عام 1985، حزب الله اللبناني، كما تبنت الجماعة موقفاً منفتحاً على الثورة الإسلامية في إيران وأوفدت ممثلين لها للتهنئة بنجاح الثورة التي اعتبروها نجاحاً من الناحية الأيديولوجية للمشروع الإسلامي، وإن ظل قادتها معترضين على الصبغة الطائفية لهذه الثورة.
وفي وقت لاحق، أقدمت الجماعة على حل الجناح العسكري قوات الفجر تنفيذاً لمخرجات اتفاق الطائف، عام 1990، الذي نص على حل الميليشيات المسلحة مع الإبقاء على حزب الله باعتباره قوة مقاومة، غير أن الجماعة أعادت تنشيطه في مناسبات تالية منها حرب يوليو 2006 التي شاركت فيها مشاركة محدودة إلى جانب حزب الله في التصدي للعدوان الإسرائيلي، ثم جاءت عودتها الأكبر مع طوفان الأقصى، كما سنبين.
وانطلاقاً من وجود عدو مشترك لكليهما، وُجدت العلاقة المعقدة بين الجماعة الإسلامية وحزب الله اللبناني وهي علاقة تتجاوز في بعض الأحيان الإطار المذهبي أو الطائفي لاعتبارات سياسية مصالحية أو وجودية مثل قضية إسناد المقاومة الفلسطينية، وفي أحيان أخرى يحكم العامل المذهبي إطار العلاقة بينهما، فالجماعة والحزب يمثلان نقيضين على المستوى الأيديولوجي والسياسي، كما أن الجماعة ترغب في أن تُقدم نفسها ممثلاً للطائفة السنية المتشرذمة سياسياً، بعد انسحاب تيار المستقبل من المشهد منذ 2022، وهذه الغاية لن تتحقق طالما بقي الحزب مسيطراً على الحياة السياسية وعلى السلطات التنفيذية في لبنان.
ومن الجدير بالذكر أن جذور الخلافات بين الجماعة والحزب تعود لما بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ففي ذلك الوقت انحازت الجماعة لتيار المستقبل ثم بدأ الحشد الطائفي بين الطرفين، وإن خفت قليلاً خلال حرب 2006 التي قاتلت فيها الجماعة مع الحزب، ثم زادت الخلافات عندما سيطر حزب الله بالقوة المسلحة على العاصمة اللبنانية بيروت، عام 2008، وتأججت بعد اندلاع الثورة السورية إذ دعمتها الجماعة التي لديها رصيد من العداء التاريخي للنظام السوري الذي مارس تضييقاً عليها ولاحق الإسلاميين إبان الوجود العسكري السوري في لبنان، وهو ما رأه الحزب انحيازاً للمشاريع الهادفة لضرب محور المقاومة وقطع خطوط إمداده إلى لبنان.
وعلى صعيد متصل، ثمة متغير لعب دوراً مهماً في تهيئة وإعادة ضبط العلاقة بين الجماعة الإسلامية وهو تأثير حركة المقاومة الإسلامية حماس التي وظفت نفوذها، بعد أن تحسنت علاقتها مجدداً بالحزب وإيران في 2017، لعقد مصالحة بينهما عام 2021، ثم عاودت استخدام نفوذها مرة أخرى في الانتخابات الداخلية للجماعة لتدعم ما يُمكن تسميته مجموعة حماس في إخوان لبنان وهو ما أسفر عن فوز محمد طقوش، مسؤول الجهاز الأمني بالجماعة الإسلامية (سابقاً) بمنصب الأمين العام، من الجولة الأولى في سبتمبر 2022، بإجمالي 23 صوتاً من أصوات مجلس شورى الجماعة مقابل 11 صوتاً لمنافسه أحمد العمري، رئيس هيئة علماء المسلمين.
وفضلاً عن كون هذا الفوز بمثابة عملية انتقال قيادية عابرة للأجيال داخل الجماعة الإسلامية اللبنانية، إذ انتقلت القيادة العليا ومنصب الأمين العام من الجيل الأول المؤسس لها ممثلاً في شخص الأمين العام السابق عزام الأيوبي، أحد القادة التاريخيين، إلى الجيل الرابع ممثلاً في طقوش ورفاقه، عكست تلك النتائج تفوق الشخصيات الأمنية والعسكرية على الشخصيات السياسية داخل الجماعة، وهذه الشخصيات مقربة من خط حزب الله ومحور المقاومة، ولذا كان طبيعياً أن تندلع الشقاقات داخل إخوان لبنان لدرجة دفعت النائب الوحيد للجماعة عماد الحوت بالتلويح بتجميد عضويته في صفوفها بسبب نهج قيادتها الحالي.
وترتبط حركة حماس بعلاقة وثيقة مع الجهاز الأمني للجماعة والعسكري الإسلامية، وذلك يرجع إلى عقود مضت اتبعت فيها الجماعة أسلوب أو تكتيك تجنيد الموالين لها في إخوان لبنان ومنحهم رواتب من ميزانية الحركة، وهذا التكتيك استخدم أيضاً مع أفرع أخرى للإخوان كإخوان الأردن، بهدف خلق قوة ضاغطة ومؤثرة موالية للحركة الفلسطينية داخل تلك الجماعات أو الأفرع.
وإضافة لما سبق، أسهمت قيادة حركة حماس، وتحديداً صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي للحركة سابقاً في تطوير القدرات العسكرية لقوات الفجر الإسلامية، وكان يعقد اجتماعات دورية لتنسيق العمل بين حركته والجماعة الإسلامية وذراعها المسلحة، قبل أن يقتل وبرفقته ست آخرين بينهم اثنان من كوادر الجماعة الإسلامية العسكريين (محمد بشاشة ومحمود شاهين)، في عملية اغتيال نفذتها مقاتلة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية ببيروت، في يناير الماضي.
وظلت تلك العلاقة العضوية مع حركة حماس تثير الجدل داخل الجماعة الإسلامية لا سيما أن بعض كوادر الجهاز الأمني خالفوا الأعراف التنظيمية والقواعد العملياتية التي تتعلق بالنشاط المسلح ليقدموا الدعم للحركة الفلسطينية، قبيل اندلاع معركة طوفان الأقصى، مع أن هناك اتفاقاً داخلياً بأن تلك المهام منوطة بالجهاز العسكري للجماعة، لكن كل تلك الخلافات هدأت بفعل التسونامي الذي أحدثه الطوفان.
وعلى ذات الصعيد، ظهر تأثير حماس في التقارب والتنسيق بين الجماعة الإسلامية ومحور المقاومة منذ الـ7 من أكتوبر، إذ سمح حزب الله لقوات الفجر الإسلامية بالعمل العسكري في مناطق الجنوب المحاذية للحدود مع الأراضي المحتلة، التي يحتكر السيطرة والعمل فيها، وهو ما أقر به رئيس المكتب السياسي للجماعة أبوعلي ياسين، وكذلك أمينها العام محمد طقوش.
واعتُبرت الهجمات المحدودة (عمليات إطلاق الصواريخ تجاه المواقع والمستوطنات الإسرائيلية)، إعلاناً صاخباً بما يكفي لعودة قوات الفجر الإسلامية، التي خفت نجمها وتوارت عن الأنظار بصورة شبه كاملة منذ اتفاق الطائف، وهو ما يعني أن الجماعة تجاوزت من جديد إطار العمل الداخلي القُطري إلى المجال الخارجي الإقليمي، كما سبق أن فعلت.
بيد أن الدور الأكبر الذي تقوم به الجماعة الإسلامية، في الوقت الحالي هو توفير الغطاء السياسي والدعم اللوجيستي لحركة حماس داخل لبنان في تجسيد فعلي للتآزر وفق شعار «إخوان القسام» الذي صاغه الذراع الدعائية للجماعة الإسلامية، وتأتي هذه المساندة في وقت تعمل فيه الأخيرة على تكوين قوة جديدة بالتنسيق مع المحور، باسم طلائع طوفان الأقصى، بحسب ما أعلنت في بيان سابق اضطرت للتراجع عنه لاعتبارات سياسية بيد أنها لم تتراجع عن أنشطتها الفعلية هناك ولعل هذا يُفسر الضربات المتتالية التي تستهدف قادة الجماعة الإسلامية العسكريين ومنها عملية اغتيال مسؤول الدعم اللوجيستي بالجماعة الإسلامية أيمن غطمة، في 22 يونيو الماضي، ومن قبلها عملية اغتيال مسؤول الدعم اللوجيستي بحماس في لبنان هادي علي مصطفى، ومسؤول البقاع الغربي شرحبيل علي السيد.
وفي الواقع، فإن عودة قوات الفجر الإسلامية يأتي كإعلان انتفاضة مسلحة للجماعة الإسلامية وهي انتفاضة تحمل في طياتها المرجعية الفكرية والطائفية السنية للجماعة التي كادت تخرج من دائرة التأثير، خلال السنوات الأخيرة، بفعل العزلة التي فرضت عليها إقليمياً، منذ عام 2013، لكونها فرعاً من أفرع الإخوان المسلمين، وبالطبع فإن تلك الانتفاضة تهدف إلى استقطاب المكون السني في التركيبة اللبنانية وهو أمر لن يكون يسيراً في ظل تقاربها وتنسيقها مع محور المقاومة الإيرانية وهو التقارب الذي ظهر جلياً بلقاء أمينها العام محمد طقوش، للمرة الأولى منذ سنوات، مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
وعلى صعيد متصل، يبقى المستقبل مشوباً بالتحديات للجماعة الإسلامية، ففي حين تُنبئ حالة النشاط التي عاشتها منذ طوفان الأقصى أن هياكلها التنظيمية والإدارية تعمل بكفاءة وهو ما يشي بتطور في أدائها، وتطمح من وراء ذلك لأن تكون ممثلاً سياسياً للطائفة أو المكون السني الذي يتنازعه سياسيون مختلفي التوجهات والأهواء في بلد مأزوم سياسياً واقتصادياً، إلا أن طبيعة الديناميات الداخلية لها فضلاً عن التحالفات التي تنخرط فيها وأهمها التقارب الواضح مع محور المقاومة يمكن أن تُشكل تهديداً لطموحاتها في التمدد والتوسع في الفضاء السني والسياسي اللبناني.
كما أن طبيعة هذا الأداء والتحالفات قد تؤدي إلى مزيد من الانعزال وإجهاض أي محاولات محتملة للتقارب مع محور الاعتدال العربي، المناهض لمحور المقاومة، والذي تخلى الفاعلون الرئيسيون فيه عن الجماعة من قبل وابتعدوا عنها، فبروز فرع إخواني بمظهر القوة والفاعلية المسلحة يثير قلقاً داخلياً وخارجياً وقد يشكل عامل حفز لبقية تنظيمات وأفرع الإخوان في المنطقة في زمن الانكسار والشتات.
وعلاوة على ما سبق فإن واحداً من أهم التحديات التي تواجه الجماعة الإسلامية اللبنانية هو كونها نخبوية، كما أسلفنا، فبعض التقديرات تذهب إلى أن إجمالي أعضائها التنظيميين نحو 1500 فقط، وإجمالي كوادر الجناح العسكري قوات الفجر نحو 500 مقاتل (بخلاف المناصرين أو الأتباع غير التنظيميين)، كما أنها تنشط، بشكل أساسي في مناطق الشمال السني فيما يبقى أداؤها من ثم فإن قدرات الجماعة للتمدد والانتشار تبقى محكومة بقدراتها البشرية والمادية ومدى تمكنها من صياغة مشروع سياسي حقيقي يستطيع أن يكسب تأييد اللبنانيين أو على الأقل كتلة السنة منهم.
وبناءً على ما سبق، فيمكن القول إن معركة طوفان الأقصى التي اعتبرت الجماعة الإسلامية اللبنانية أنها خلطت فيها الأوراق وقلبت الموازين، بحسب كلمات أنشودة «إخوان القسام» جاءت لتمنح الجماعة فرصة لإعادة النظر في بنيتها التنظيمية وأدائها الحركي والسياسي لتتواكب مع المتغيرات الجديدة وحالة المخاض التي تمر بها المنطقة، وفي حال نجحت في ذلك فإنها ستنجح في كسب أرضية جديدة لها على الساحة اللبنانية والإقليمية أيضاً أما إذا أخفقت فستواجه الجماعة تراجعاً وانقساماً بل وربما تغلبها التحديات التنظيمية والسياسية في بلد مأزوم يعيش وسط معادلة داخلية وخارجية مستعصية.